المرج..
"هو كل يوم هنلبس نفس الأزرق دا؟؟
هو مافيش غيره في الدولاب؟"
هكذا صبحتني أمي..
فابتسمت..
فابتسمت..
محلقةٌ أنا هذا الصباح... فكيف لا أرتدي
الأزرق؟؟!!!
كيف أحلق بغير الأزرق؟؟
أنوي أن أفسر لها..
أغيرُ رأيي مشفقةً عليها.. هي تظن بعقلي الظنون
أصلا..
فلا داعي لمزيد من الحسرة علي "خلفتها"
!
"بس أنا باحبه جدا.. و بعدين اللي مش عاجبه
الأزرق ما يبصش عليه.. سلام يا وزة"
نفارق بعضنا مبتسمتين..
أهبط درجات السلم.. إلي عملي كما المعتاد..
لكن فيمَ كل تلك الخفة؟؟
أهبط الدرجات كما لو أنني أخيرا هربت من قيود الجسد..
أهبط الدرجات كما لو أنني أخيرا هربت من قيود الجسد..
خفيفةُ روحي.. كما لو أنني تحررتُ أخيرا من
الجاذبية الأرضية الكريهه...
خفيفةٌ كما لو كنت أرقص..
أطفو..
طفو.. !!
تلك هي..
تلك المفردة السحرية..
المجد لمفردات اللغة.. المجد للغة أصلا.. و فرعا
كمان.
أخرج إلي الشارع أخيرا بعد سلمٍ طويل..
الشارع.. صباح رائع.. ملئ بأطفال المدارس بعيونهم
المشعة نوما لذيذا .. بعيونهم الشقية و صخبهم في طرقاتهم إلي المدرسة...
لا أحب أطفال المدارس الذاهبين بالباصّ إلي
مدارسهم..
نائمون .. كسالي.. عيونهم فاقدة اللمعان.. و
مغلقين..
لا شئ يضاهي السابعة صباحا مع أطفال مدارس علي
أقدامهم الصغيرة إلي مدارسهم.. بعيونهم الواسعة .. عيونهم سحرية تاخذني بعيدا إلي
حيث لا أدري.. لكن إلي حيث أنتمي !
السابعة صباحا.. !
بدري جدا.. عملي يبدأ في التاسعة و النصف.. و
الطريق لا يستغرق أكثر من نصف ساعة !
لا يهم.. علي كل حال كنت سأنام و أفوتُ العمل لو
بقيتُ في المنزل..
أعشق صباحات الخريف هذه...
وحده الخريف يملؤني خفة... يُشعرني بالطفو..
صباح لا يعكر صفوه سوي أنه من صباحات أكتوبر..
أكتوبر!
لا ... لا... لا داعي للتفكير في أكتوبر الآن..لا
داعي علي الإطلاق..
أتمني لو أن معي بالونات بهية الألوان.. فقط كي
أُغري هؤلاء الأطفال باللعب معي..
أحسُّ في أعماقي بأنه لا داعي للعمل أو المدرسة في هذا اليوم..
أحسُّ في أعماقي بأنه لا داعي للعمل أو المدرسة في هذا اليوم..
ننفخ البلالين.. ونلعب.. و هاجيب فطار.. و نفطر
سوا..
و الله مستعدة أشرب شاي بحليب معاهم.. بس هم يوافقوا.. !
و الله مستعدة أشرب شاي بحليب معاهم.. بس هم يوافقوا.. !
أبتسم أوسع ابتسامة ابتسمتها في حياتي ربما..
ربما كانت أمي محقة.. و أنا فعلا محرضة علي
الفساد..
بالقرب من الباصّ ما قبل المترو لمحته..
طفل "أخضر و بضفاير.. و بمريلة بني
بأساور" كما غنتْ بلاك تيما تماما..
و فعلا بمريلة بني بأساور.. و شعر بني ناعم .. و عيون في لون العسل..
و فعلا بمريلة بني بأساور.. و شعر بني ناعم .. و عيون في لون العسل..
عيونه واسعة لدرجة إني خفت لأقع في العينين..و
أسمر بشكل مصري صميم... و شنطة "خيش" يحمل بها كتبه.. و ربما أحلامه
الملونة و طياراته و تفاصيله المنمنمة !
روحه كلها بتطل من عيونه الواسعين.. هو دا الطفل اللي أتمني أقضي بصحبته هذا الصباح الخريفي...
روحه كلها بتطل من عيونه الواسعين.. هو دا الطفل اللي أتمني أقضي بصحبته هذا الصباح الخريفي...
نظرتُ إليه و تسمرتُ مكاني.. و ابتسم لما رآني..
اقتربتُ علي استحياء.. فسألته عن اسمه.. أخبرني
"جلال" ..
سألني إذا ممكن أساعده و أبتاع له "سندوتش" من علي عربة الفول.. لأنه لا يصل إلي البائع.. و لا صوته يصله وسط هذا الضجيج.. و
أعطاني جنيها مجعدا من جيبه.. و منحني أصفي ابتسامه رأيتها في حياتي..
وقفتُ علي العربة للمرة الثانية في حياتي غالبا..
و ابتعتُ له ما طلب.. و لي أيضا.. ابتسمتُ له و أنا أعطيه "السندوتش".. سألته إن كان
لنا أن نفطر معا.. فأجاب " طبعا" .. ثم أضاف " بس أنا لازم أكون في
المترو دلوقتي عشان المدرسة.. "
أخبرته أنني أيضا ذاهبة إلي المترو.. اشتريتُ
التذاكر.. و دخلنا إلي رصيف المترو معا.. أكادُ أطيرُ من فرط سعادتي بهذا
ال"جلال" ... برغم صمته!
أكلنا و تحدثنا.. و ضحكنا كثيرا.. كما لو أننا
صديقان منذ عصور!
صخبنا جدا وسط الرصيف وسط استنكار الراحلون
دوما... و رغبة البعض الطافحة من عيونهم في مشاركتنا بهجتنا.. ليتهم يفعلون..
"بتحب الكرتون يا جلال؟ " سألته
متلهفة.. فأجابني ب أفخم "طبعا" سمعتها..
"طيب نتفرج ع كرتون سوا علي ما المترو
يجي؟؟"
"مواافق جدا.. يارب يعطل أصلا"
و هكذا ترانا متجاورين علي الرصيف نحدق في شاشة الكمبيوتر الصغير..
"مواافق جدا.. يارب يعطل أصلا"
و هكذا ترانا متجاورين علي الرصيف نحدق في شاشة الكمبيوتر الصغير..
معزولان عن هذا الكوكب البغيض أصلا...
"المترو جه.. هاقوم بقي.. أسف.." !
أتي القطار الملعون أخيرا.. ليأخذ مني هذا
ال"جلال" .. تبا!
لم أستطع منعه برغم كل الشر بداخلي أني أكمل معه
صباحنا البهي هذا.. و لتذهب المدرسة إلي حيث يحترق الخُطاة..
احتميتُ بالصمت كعادتي كلما كنتُ في موقفٍ مماثل.. بحثتُ
في حقيبتي حتي وجدتها.. بالونتي الملونة.. أعطيته البالونة.. أتمني أن يشعر بأنها
مفضلتي.. و أغلي ما أهدي به.. قبلّني .. ثم أخفاها في جوربه و غمز لي بعينيه العسلية و ركض إلي المترو..
ــــــــــــــــــ
حلوان..
أفقتُ كما
المعتاد علي صخب المترو.. و نداءاته و راكبيه و ضجيجهم القادم من شرفتي اللعينة..
أنا لم أنم بعدُ كفايتي... اللعنة..
أنا لم أنم بعدُ كفايتي... اللعنة..
يالها من
بداية غريبة لليوم... ليس بوسعي اختيار البدايات علي كل حال..
أفقتُ علي
الصخب و قد كان ما قد كان...
أجلس بلا
حركة في مكاني.. أفكرُ فيما سأفعله بهذا اليوم المُلقي أمامي كمريض... بإمكاني أن
أبثَّ فيه الحياة من جديد.. و لو تركته لمات كغيره من الأيام..
أقلبُ
احتمالات اليوم..
الكلية.. ؟؟
لا .. لا
داعي لها.. شعرتُ بغربتي فيها .. أحسستها قفرا بعدما لم تعد مكاني.. و لم يعد بها
أصحابي...
لا داعي
للكلية اليوم.. علي الأقل اليوم.
البحث عن
عملٍ ما يشغل أيامي المتشابهه؟؟
يبدو حلا
أجمل من أن يكتمل..
أي عملٍ هذا؟؟
ألا يتطلب هذا بحثا مسبقا؟؟
ألا ينبغي
علي معرفة ما لدي أولا من مقومات العمل؟؟
الذهاب في
جولاتي الغامضة وحدي أو مع أحد أصدقائي..
يبدو حلا
مثاليا .. هكذا يكون القتل الرحيم لليوم.. لكن أصحابي لن يفيقوا في السابعة حتي و
لو كان داعي الحرب ينادي..!
الانتظار في
البيت..
يبدو قاتلا
أيضا..
إذن فلا مفر
من الكلية.. سأذهب إليها كبداية .. و لنر ما يمكنني فعله من هناك.
الكلية
إذن... رحلة المترو إلي هناك و لا سبيل إلي الهرب..
تبا... لقد
صار المترو متغلغلا في حياتي بشكل مستفز فعلا...
أفكرُ فيما
سأرتدي.. ألمح قميصي الأزرق..
فقط الآن
تذكرتها.. فتاة المترو..
لا ... لا
سأسميها فتاة الأزرق.. كانت آسرة في أزرقها هذا..
سأرتدي
أزرقي أنا أيضا..
"يااارب
أشوفها انهاردة" ضبطتُ نفسي أتمتم بهذا و أنا أخرج من المنزل!!
تعجبتُ
منّي.. كل هذا بسبب الأزرق؟؟
ربما.. و
ربما كان حضورها الموجود.. حضورها الحقيقي.. الحقيقي جدا لو شئنا الدقة..
لا أدري..
لكني تمنيتُ رؤيتها بشدة هذا الصباح.. تمنيتُ هذا بكل جوارحي !
أهبط درجات
السلم.. ثم أصعد درجات سلم المترو البغيض وسط الراحلين.. الغافلين ربما.. عندئذٍ
لمحته... أعرف ذلك الأزرق.. حتي و لو من بعيد.. أحسُّ بألفةِ ما تربطني به..
لمحتها من بعيد.. في نفس الأزرق.. يااااللروعة!
لمحتها من بعيد.. في نفس الأزرق.. يااااللروعة!
أكادُ أقفزُ
فرحا علي درجات السلم.. لا ريب أنها أتية إلي المترو.. سأسبقها إذن إلي الداخل..
أدخل إلي
رصيف حلوان.. و أقفُ .. أستشعر اختلافي عن الراحلين من حولي... كلهم ينتظر
القطار... و أنا في انتظار الأزرق البهي.. في انتظارها..
أراها الآن
بوضوحٍ تام.. تدخل إلي الرصيف المقابل.. بكامل حضورها المشع.. معها طفل صغير..
جميل و .. "منمنم"
ربما كان أخاها؟؟
أدققُ أكثر
في ملامحهما.. لا يبدو أنهما حتي أقارب!
جالسان علي
رصيف المحطة وسط صخب الجميع.. يأكلان علي مهل ما بأيديهما ... ياالبساطتها!!!
تبدو كأنما
هي خارج الزمان و المكان.. لا تنتمي لنمطية هذا الواقع بأي شكل... حضورها ساحر..
لا يسعني أن أصرف نظري عنهما.. عنها تحديدا.. برغم براءة هذا الطفل... طفل مصري
صميم و بمريلة بني بأساور..
حسبتُ أنها
انقرضتْ ... طفولتي في زراير و اساور مريلة كهذه..
أدققُ النظر
أكثر فيها.. أودُّ لو أراني في عينيها!
عجيبُ أنا
هذا الصباح... لا مريبٌ انا !
يتحدثان
بألفة شديدة.. أودُّ لو أشاركهما حديثهما هذا.. افطارهما البسيط جدا هذا..
لماذا لستُ
طفلا أنا أيضا؟؟!
يصخبان غير
مباليين بنظرات اللوم أو الحسرة ممن حولهم.. أكاد أجزم أن بعض الراحلين تطفر
عيونهم حسرة علي مثل هذا الفرح.. علي مثل تلك الحالة.. انا نفسي أودُّ لو أقفز إلي
الرصيف المقابل أشاركهم ما هم فيه.. أقتربُ من الأزرق.. من يدري وقتها.. ربما
أراني في عينيها الواسعتين..
عيناان
واسعتان لدرجة مدهشة.. عينان كنافذتين علي الروح..
ربما تطل
منهما الروح.. بانتظار من يفهم و يشعر !
عينان
تنسياك أي تفاصيل أخري في الوجه..!
أقدمتْ علي
أعجب ما رأيتُ من فتاة... أخرجت حاسبها الشخصي الصغير.. و سماعات أذن.. لها و
للطفل معها.. و جلسا يشاهدان ما يضحكهما كثيرا... لو يهدأ الصخب حولي ف المحطة
الملعونة .. أودُّ لو أسمع ضحكاتهما... لو أعرف فقط ماذا يشاهدان؟
أتي المترو
الملعون.. ليس بوسعي أن أنظر خلال المترو لهما..
و ليس بوسعي
أن أفارق تلك الكتلة البشرية الملتحمة بي لتوها كأنما هي مني منذ خُلقتُ !
اللعنة..
لا يسعني
إلا أن أتمني "يااارب ما تكونشي دي أخر مرة أشوفها" !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق