السبت، 26 يناير 2013

روبابيكيات.. (3) ..


أنتظرُها.. في ظلامِ الغرفة..
طال بي الانتظار.. و انا بأمسّ الحاجة لحكيها... حتي ظننتُ أنني أخطأتُ قراءةَ العلامات..
لا لم أخطئ.. ليستْ أول مرة تأتيني.... أحسُّ باقتراب الحدوتة في قلبي... هذا لا فكاكَ لي منه مهما كذبتُه... هي آتية..
أنا من يتعجل كالمعتاد...

أفكرُ باضاءة الغرفة..أعدلُ عن هذا.. هي جنية.. لا تهاب الظلمة..
و أنا أحب غرفتي و هي مظلمة.. استشعرُ توحدي معها.. مع الحوائط.. الأرضية... المكتب.. كتبي.. دفاتري..
و حتي نجومي الصغيرة التي تضيئ في سقف الغرفة المظلم...
أقضي ليالٍ طويلة بأكملها أحدقُ في سقفي الصغير هذا متخيلةً أن غرفتي هذه كهفٌ جبلي..  
كهفٌ مهجووور منذ سنين.. لا يعلمه سواي... وحدي فيه و سقفي السماء..
حتي أمنتُ بأنني أحيا في كهفٍ جبلي.. أمنتُ به في قلبي...  

النور يؤذي عينيّ علي أيّهِ حال..

انتظرها.. و يطول بي الانتظار..
الوحيدة التي انتظرها هكذا.. و بدون ضجر..
استثنائيةٌ جنيتي هذه..

أفكرُ و أنا بانتظاري هذا.. أنها من علمتني كيف ُتروي الحكايا..
"ليس السردُ مهنةَ من لا مهنةَ له" .. هكذا أخبرتني ذات فجر...
تعلمتُ منها كيف يكون المكان متوحدا مع الحكايا.. كيف أملأ المكان بروح الحواديت.. و الضوء لا يتفق و روح الحواديت..
لا يتفق و الخيال...
الضوء يقتلُ الخيال... الضوء يقتلُ الحواديت.. و يؤذي الفراشات.. و الجنيات.. و يؤلمُ عينيّ ايضا...

الضوء بارد... و الخيالُ دافئ!

"ها قد أتيتُكِ يا ذئبة.."
لا أصدق .. أخيرا جاءت جنيتي... قد حانت سعادتي في الدنيا إذن..

يااااه.. ما أسعدني بالوصف.. أراه مدحا..

" أنتِ حتما مخبولة.. أخبرُكِ أنكِ ذئبة.. فتفرحين هكذا..؟؟ "
" و ما أدراكِ أن..."
" أنا منكِ و فيكِ .. ما تنسيش دا.. أنا ببساطة جنيتك.." !

أبتسمُ .. و أنا لا أزالُ منتشية بالوصف.. ربما كنتُ مخبولةً فعلا كما تري.. و يري الكثيرون... لا يهم.. منذ متي كان يهم ؟!

" هتحكيلي إيه المرة دي؟؟ .. و سيبتيني استني كتييير اوي المرة دي كدا ليه؟؟"
" كل حاجة بأوانها... أنت اللي بتفكري ف الوقت كتير.. عشان كدا استنيتي.. انا باجي ف معادي بالمظبوط.. "
" يوووه .. مش هاخلص من فلسفتك.. طيب.. هتحكيلي إيه؟"
" سأحكيك اليوم عن طفلةٍ تخاف .."
"تبا..."
" الخوف سنة الله في خلقه.. فطرةٌ ركبَّها الله تعالي في الخلق.. و لولا الخوف.. لأهلكَ الخلقُ أنفسَهم قبل غيرهم.. و في النهاية الحكيمُ فقط من يضع الشئ موضعه.. "
" أما قلتُ لكِ تبا... ت.. ب..ا...
أبعدَ كلُ هذا الانتظار.. تأتين لتحكي عن طفلة خائفة.. تبا لك و لإشاراتك هذه ؟؟ "

"إنتي محتاجة تسمعي الحدوتة دي بالذات... محتاجة تسمعي.. و انا جيت عشان محتاجة أحكي.. "
"طيب.. اتفضلي احكي.."

"يُروي فيما يُروي.. و اليقينُ من عند الله.. أنه كانتْ طفلة.. اسمها مريم..
مريمُ هذه في زمانها الأول كانتْ شقية.. متمردة.. قلما تهدأ.. سريعة الحركة و الكلام.. متعجلة نافدة الصبر.. ملووول مما حولها و من حولها كأنها عجوزٌ قد عمرتْ في الأرض مائةَ عام.... لكنّ بها شغفا.. شغفُ لا يكون إلا لطفلٍ حقا..و لولا هذا الشغف لظنَّ من يراها.. أنها عجوز قد حلتْ في جسد طفل.. !

لكنَّ هذا كان في زمانها الأول.. لا تلبث الدنيا أن تغيرَ كل ما هو قائم.. و هذا حالها هي أيضا..

كانتْ تعيش مع أبٍ و أمٍ و أخوة.. كبارا و صغارا.. إلا واحد قد سافر و فارقهم.. كانتْ شغوفة بأخيها هذا...  تراه كالكُهَّان... ليس ثمة ما لا يستطيع فعله أو معرفته...
أه.. كانتْ طفلة !!
سرعان ما كانتْ تَمَلُ صحبة أخوتها .. و لعبهم.. و ربما ضجرتْ منهم هم أنفسهم..

كانتْ تري أبويها كقوي الطبيعة... لا تحيد عن مساراتها.. و كقوي الطبيعة.. لا تكذب.. تعتقد فيهما الصدق المطلق.. كانتْ لا تزال طفلة علي أيةِ حال.. و هكذا الأطفال.. أطفالُ الحكايا علي الأقل..

لكن الدنيا لا تلبث أن تغير الحال.. فتبدله بحال.. و قد كان..

ذات مساء أسرَّتْ الأم إلي مريم أنها ستأخذها غدا إلي محطة القطار.. حيث تستقبل الأخ المسافر..
و لم تدر ما فعلتْ بابنتها... كأنما مسّها الساحر بعصاه.. لم تنم الطفلة الصغيرة طول الليل.. تفكر.. تخطط لعودة الأخ/ الكاهن..
لم تفارقها البسمة... ما كانت لتهدأ.. أو يهدأ خيالها الجامح.. خيالها الذي لا يعرف كيف يهدأ !
قضت الليل متحفزة بانتظار رؤيتها لأخيها..تقلب كل الاحتمالات صغيرها و كبيرها فيما سيكون بعد عودته..


أخذتها الأم دون بقية إخوتها .. أخذا يسيرا معا في الشوارع باتجاه المحطة
يشتريا أشياء.. يتكلما.. أو يصمتا.. فتنظر مريم في السماء البعيدة..
حتي إذا ما اقتربا من محطة القطار.. أسرَّتْ مريم إلي أمها ... " عارفة .. أول ما أشوف أخويا.. هاقوله يسهر معايا عشان يحكيلي حواديت النجوم اللي في السما دول كلهم.. و يقولي علي اساميهم.. هو قاللي انه يعرف"...
تصمتْ الأم.. تصلان إلي المحطة..تجلسان علي رصيف القطار.. لكنها لا تصرف بصرها عن مريم التي تبصر رصيف القطار .. لا تتحرك.. لا تطرف عيونها الطفولية بانتظار القادم في القطار.. تري ابنتها كأنها تمثال للانتظار.. للترقب !

بعد حين ظهر الأخ .. أبصرته الأم قبل مريم.. أخبرتْها.. أشارتْ إليه ..
و أخذتا في الصياح .. تناديان عليه.. لّوح لهما الأخ بذراعيه لمَّا أبصرهما.. و لمّا لم يكن بوسعهما إلّا انتظاره حتي يعبر رصيف القطار و يصعد السلم قادما إليهما .. فاكتفيتا بانتظاره .. مريم تلاحقه ببصرها.. و الأم تتابعهما بدورها
و عند منعطف السلم اختفي الأخ عن نظر مريم.. و ما كانت لتدرك بعقلها الصغير...أن قد اقترب مجيئه... فنظرت إلي أمها تسألها بعينين خائفتين تقولان الكثير...
استغلت الأم الفرصة السانحة أمامها للمزاح فما كان منها إلا أنها أجابت : " هو هيرجع و مش هيجي عشان انتي مش بتسمعي الكلام و انتي عملتي ايه .... " إلي أخر هذا الكلام الشبيه باللاشئ..


"إنتي بتقصقصي كدا من الحدوتة.. و بتكروتي في الوصف.. أول مرة يعني..!!!"
" عجيبة يعني ... أول مرة تقاطعيني و انا باحكي !... مش قولتلك إنك محتاجة تسمعي الحدوتة دي بالذات.. "

فأصمتُ و أنا أكاد أنفجر من غيظي... و ألعنُ نفسي في نفسي لأني فعلتُ و قاطعتها... ربما حقا كانت مبصرة.. و أنا فعلا بحاجة حكايتها هذه.. أنا بحاجة كل حكاياتها علي الدوام..
" كملي .. خلاص مش هانطق لحد ما تخلصي" ..

تبتسمُ و تعود لتحكي...

صُدمَتْ مريم.. و ما كان منها إلا ما هو طبيعي جدا .. و متوقع.. ما كان منها إلا البكاء..
بكاءٌ ممض.. يحرق شيئا ما بداخلك.. شئ ما كنت تدرين أنها بداخلك..
بكاء روحٌ قد خدعتْ من حيث لم تحتسب !
بكاء لا يفلح معه تهدئة الأم.. او ضحكاتها المرتبكة.. او افهام الصغيرة أنها كانت تمزح.. بكاء حتي لا يفلح معه وصول الأخ.. و لا يهدؤه كلام
هذا الأخ..
طفلة كانتْ... طفلة تخاف.. تعلمت عن الخوف المزيد لكنها لم تتركه .. لم تزل تخاف !
لم ترد مريم .. و لم تكف عن بكائها.. بعد حين التفتتْ إليهما و سألتْ الأم : " إنتي كنتي بتضحكي علي؟؟... " ثم جلست بجوارهما علي الرصيف صامته كالقبر... تنظر أمامها .. تري و لا تري.."

ثم صمتتْ جنيتي تماما.. لعلها رحلتْ !
تركتني وحدي أشعر ب...
ب...
ب...
بلاشئ.. تركتني و أنا لا أشعر تقريبا..
تركتني أبكي مريم.. أبكي نفسي..
تركتني منتظرة.. منتظرة إيّاها مرة أخري..
أم لعلي أنتظر نفسي !؟؟ 

الثلاثاء، 1 يناير 2013

خواء

تصحو كل يوم.. كـ..كـــ... ككل يوم !
تصحو لكي تبدأ.. لكنها تشعر أنها تواصل شيئا ما.. لا تبدأ شيئا جديدا..
تصحو كل يوم ككل يوم.. باهتة الروح !

تصحو.. تغادر غرفتها حيث المكان الوحيد اللائق بخوائها المفزع...
تبصر الرزنامة في طريقها.. ديسمبر !
تمضي من أمام الرزنامة إلي المطبخ... ديسمبر...
تبدأ في طقوس الصباح التي كفَّت عن أن تكون طقوسا بمجرد أن كفَّتْ هي عن الشعور بها.. ديسمبر...قهوة صباحية حيث لا مذاق القهوة...حيث لا رائحتها المنعشة...حيث لا شئ تماما..
ديسمبر !
قد آتي سريعا ... قد أصبحنا في نهاية العام..
تفكر.. هل تستعد لهذا القادم بعد شهر.. أم تمضي وقتا أكثر مع هذا الراحل.. الراحل قريبا ؟؟
وقتا خاويا.. تشعرُ أنه ما عاد لديها ما تفعله أو تقوله لهذا الراحل أو القادم الذي لا بد أنه راحلٌ أيضا في وقتٍ ما ...
كلُّ آتٍ قريب... و كل قادمٍ راحلٌ كذلك !

أنهتْ قهوتها التي كفتْ عن أن تكون قهوة..
تعتقدُ أنه حتي القهوة.. قهوتها قررتْ أن تعاقبها بشكلٍ ما .. لكنها لا تعرفُ علي أيَّ شئٍ تُعاقَب!...
ربما تعرف لكنها لا تريد أت تعترف .. ربما ...
أنا لا أعلم.. و هي لا تعلمُ أيضا..
تقرر أن تذهب إلي .. إلي ... ربما إلي كليتها...
أنا ليس بوسعي حقا التنبؤ.. و هي لا يمكن التنبؤ بما يدور بداخلها..
هي قارة مجهولة .. غفل عنها الرحالَّة..
هي أراضٍ لم تُكتشف بعد.. لم يطأها بشر..
و حتي ربما هي لا تعرف ما يدور بداخلها جيدا..
هي تعترفُ بهذا كثيرا.. أثقُ بأنها تشعرُ بهذا..

تقلب في دفاترها... ورقة.. ورقة أخري.. دفتر آخر..
تقرأ.. " و من قال إن الخواء أمر سهل.. إنه الفترة الوحيدة التي نسمع فيها تَكسُر كل الأشياء الثمينة في دواخلنا" *
تسكن الأصوات داخلها.. تسمع دوي كسر أحد الأشياء الثمينة مرةً أخري..
مرةً أخري أ كثرُ وضوحا.. أعلي دَويِّا !
ديسمبر... حيث أجمل الأشياء... أجمل الأيام الشتوية و أجمل الشموس الشتوية...

حيث أمطار الشتاء بروعتها.. حيث الشوارع القفر... الشوارع التي هجرها الناس...
ديسمبر حيث البرد المنعش... لا أنا أعرف و لا هي حتي تعرف كيف ينعشها البرد هكذا رغم اختراقه لعظامها..
ديسمبر حيث النهايات.. حيث اقتراب العام الجديد.. ورحيل العام الحالي..

حيث الخــــــــواء .

تــشعر أنها ملعونة بشكل ما ... لماذا تلاحقها الإشارات هكذا...
تقلب في أوراقها التي نأت عنها فتقرأ عن تكسر الأشياء الثمينة في دواخلنا.. و الآن بالذات !

للحظةٍ ما شعرتْ أن ما بداخلها مدنٌ منسية.. مدن هجرها أهلوها !
مدن كالسفن الغرقي..و كالسفن الغرقي.. صارتْ زلقة لا تعلق ذكراها برأس أحد !

لا تدري كيف صار كل العالم بداخلها خاويا هكذا؟؟ لا تدري كيف بدأ هذا الخواء في ابتلاع كل ما كان فيها !
لكنها وقتها.. و وقتها فقط شعرتْ بالروح –روحها – تفارقها.. و لا تدري هل ستعودُ إليها أم لا !
شعرت بالموت في أنحائها... يزحف ببرودته ..
تتلمس الدفء فيما حولها .. فيها .. !
تتمني لو أن بإمكانها أن تطلب الدفء.. بعض الدفء لا أكثر..
الدفء لا يُطلب.. الدفءُ يُمنح !
طلبُ الدفءِ مهين!
هي خيرُ من يعرف هذا.

تمشي وسط الناس.. لعلها تستطيع أن تضيع من ذاتها في هذا الزحام..
من يدري .. لعلها تُمنح الدفء يوما ما .... 










*للكاتب واسيني الأعرج...

** اعتذار واجب لللتأخير.... أنا أسفة