كيِفكْ ؟
أهجسُ داخلي أنكِ
بخير ، لطَالمَا كُنتِ بخيرٍ ، كيف لِرُوحٍ كَروُحِكِ ألَّا تكون بخير و ألاَّ تَنشُرَ
الخير ؟!! هذا لا يكون ، لا يَسَعُه فقط أن يحدث .
سلامٌ عليكِ ، و بعد ،
سلامٌ عليكِ ، و بعد ،
أفتقدُكِ . فقدٌ يشبه اليتم أو يتمُ يتصرف كأنه فقد .. لكنه لا يصرح بكونه يتما .
اعتقدتِ أنني نسيتُكِ ؟!! غريب ، لا ألَومُكِ طبعا لكنني لم أفعل ، لا أعرفُ كيف أنساكِ ، فقط تعرفين بطئي الشديد في استيعابِ الأشياءِ من حولي ، خاصةً الغياب ، أعلمُ أن هذا عَصِيُّ علي التصديق لكنَكِ ستفعلين ، ستُصَدقيِنني، لطالما فعلتِ ربما كنتِ الوحيدةَ التي تفعلُ هذا و تصدقُنِي . لكن لا ألُومُكِ لو لم تفعلي هذا و لو للمرةِ الأولى ، لا لن أفعل، لا يعقلُ أن يستغرقَني الأمرُ خمسَ عشرةَ سنة كي أذكرَكِ للمرةِ الأولىِ بعد وفاتِكِ . لكني فعلتُ ، خمسة عشر عاما من فَقْدٍ لكي آتيكِ أخيرا .
اعتقدتِ أنني نسيتُكِ ؟!! غريب ، لا ألَومُكِ طبعا لكنني لم أفعل ، لا أعرفُ كيف أنساكِ ، فقط تعرفين بطئي الشديد في استيعابِ الأشياءِ من حولي ، خاصةً الغياب ، أعلمُ أن هذا عَصِيُّ علي التصديق لكنَكِ ستفعلين ، ستُصَدقيِنني، لطالما فعلتِ ربما كنتِ الوحيدةَ التي تفعلُ هذا و تصدقُنِي . لكن لا ألُومُكِ لو لم تفعلي هذا و لو للمرةِ الأولى ، لا لن أفعل، لا يعقلُ أن يستغرقَني الأمرُ خمسَ عشرةَ سنة كي أذكرَكِ للمرةِ الأولىِ بعد وفاتِكِ . لكني فعلتُ ، خمسة عشر عاما من فَقْدٍ لكي آتيكِ أخيرا .
آسفة .
لم يكن ثمة كثير أحداثٍ في هذه السنين، إلا أنه ذاتَ مرةٍ مَسَّنِي الحلمُ بأجنحةٍ من نور فحلمتُ، لحظةٌ خالصةٌ يا جدتي من الحلمِ و النورِ و الممكن و الحرية ،لحظةٌ يتيمة واحدة امتدتْ لبضعة أشهرٍ مَسَّنا الحلمُ فيها فثُرّنَا . ثم زال مس الحلم عنا فهوينا.
تلك اللحظة كانت لك و بكِ يا جدتي ،وحدكِ دون العالمين كنتِ معي ،ما
كان لأحدٍ أن يشاركني إياها سواكِ وقتها لم يكن لأحدٍ غيرُكِ أن يفهم هذا المس، لا
أم ، لا أب، لا أخ و لا صديق سيفهم هذا، أنتِ كنتِ ستفعلين و ستعرفين كيف تهدهدين
خوفك و أنت ترينني أركض نحو الخطر أمامك.. ربما كنت ستركضين معي .. آسفة لم يحدث
الكثير غيرها .
علي ذكر الأحلام، أنتِ لم تأتني في الحلم سوى مرة . خمس عشرة سنة و زيارة واحدة
دونما حديث ؟ ما كان هذا عهدنا . أنتِ تركتني صغيرة جدا ، محدودة جدا و الحياة
حولي كبيرة و أنا وحدي يخيفني اتساعها و أنتِ تعلمين هذا . لا أحد يهدهد خوفي بعدك
يا جدة . و أنتِ تركتني لخوفي ، لماذا ؟
و علي ذكر الخوفِ
أيضا ، حفيدُكِ الصغيرُ الخائفُ و الهارب دوما من منزله إلي حيث يكون جناحك الرحيم
قد صار شابا يافعا غاضبا في أغلب أحواله. ذاك الثرثار الصغير أصبح صامتا و مدخنا
لفترة لا بأس بها من شبابه .لا أعرف كيف يقدرون علي تشويهنا هكذا ؟.
و لا أعرف تحديدا متي خبا بريقُ عينيه الكَرْتُونيه هذه و تعلم كيف يكره و يسخط و يرى قبح العالم من حوله؟؟
و لا أعرف تحديدا متي خبا بريقُ عينيه الكَرْتُونيه هذه و تعلم كيف يكره و يسخط و يرى قبح العالم من حوله؟؟
أنا أعتقد أن
بريقي خبا معكِ في ذلك الصباح الأكتوبري البعيد من خمس عشرة سنة أخذتِه معكِ بعيدا
حيث النجوم .
ابنة أختكِ
الصابرة ، صابرا، رحلت بعدك بهدوء يليق بها، كانت تشبهك كثيرا حتي في الرحيل، رحلت
في أكتوبر .
حفيدتك الكبرى
تزوجتْ و لديها أبناء لم يروكِ قط و لن يروكِ قط ، أشفقُ عليهم. لكن بناتكِ سيكن
جدات رائعات لكن و لا واحدة منهن ستدخل نطاق روعتك ، أنتِ استثنائية يا جدتي .
ذات مرة عندما
كان بي مسٌّ من الحلم سألني أحدهم لماذا أطيلُ النظر في النجوم؟ و لم أعرف كيف
أجيب . صمتتُ كأني صمتتُ دهرا، و أعتقد أني أخجلته بصمتي هذا فاعتذرت منه ثم رأيته
ثانيا و ثالثا .. كان كلانا ممسوسا بالحلم ، أهٍ يا جدتي ثم لما صار ما صار و أصبح
قريبا بعدما كان بعيدا ثم صار أليفا بعدما كان غريبا أخبرته بالسر الصغير .. أني
أرى النجوم موتى .. لا أعرف كيف يكون الموت حقا و لا كيف يبلى من كان يملئ الكون
صخبا و حركة ، لا أعرف كيف يكون هذا الاختفاء كأنهم لم يكونوا يوما ، أخبرته أنك
أخبرتيني يوما أنك ستموتين فلا أفزع و لكنك ستصبحين نجمة بعيدة منيرة ، فقط هذا ،
تطلين علي من عليائك ، أنتِ هنا و لكنك بعيدة كالنجمة ، فابتسم و بدأت الحكاية بكِ
و منكِ . ثم نسى هو السر الصغير و ابتعد و عاد كما كان غريبا بعيدا و أنت بقيتِ مع
الحكاية ، الذكرى ، و النجمة البعيدة .
أتعلمين كم أن
هذا مؤلم . بيتك صار بعيدا يا جدتي ، كما النجمة .
مؤلم و جارحٌ يا جدة أن أن ينتهي العالم قبل الشارع الذي تسكنين به ،أقصد الذي كنتِ تسكنين به . لا أراه إلا في صلاة العيد غالبا ...
مؤلم و جارحٌ يا جدة أن أن ينتهي العالم قبل الشارع الذي تسكنين به ،أقصد الذي كنتِ تسكنين به . لا أراه إلا في صلاة العيد غالبا ...
ما عدنا نجتمع
سويا لا أيام الجمعة و لا في يوم العيد كما كنا نفعل ، لا أخفيكِ سرا أصبحت غير
ودودة بالمرة و لا أطيق تلك التجمعات .
أصبحت أنفرُ
تلقائيا من أي مكان به أكثر من شخصين و خاصة إذا كانوا يعرفونني ما بالك لو كانوا
من العائلة ؟! , أصبحتُ هاربة دائما مثل حفيدُكِ الصغير
جدتي، أنا في
أمس حاجتي إليكِ .
إن كان ثمة نصيب لكل منا في حياته من الحيرة و الارتباك و التشوش ، فقد اجتمع هذا النصيب كله الآن في حياتي ، لم يعد بوسعي التمييز بين أبسط الأشياء ، و تربكني و تغيظني وقفتي ف المنتصف ، لا ليس منتصفا
لاشئ ، هذا هو المسمى الأكثر تعبيرا .
إن كان ثمة نصيب لكل منا في حياته من الحيرة و الارتباك و التشوش ، فقد اجتمع هذا النصيب كله الآن في حياتي ، لم يعد بوسعي التمييز بين أبسط الأشياء ، و تربكني و تغيظني وقفتي ف المنتصف ، لا ليس منتصفا
لاشئ ، هذا هو المسمى الأكثر تعبيرا .
أصبحتُ كئيبة ؟ ربما .. لكني مشوشة كثيرا و لا أتحرك في أي اتجاه كأن قدري أن أبقى
عالقة و إلي أمدٍ لستُ أعلمه سأبقى عالقة .
ما يثير حنقي أني أشعر أني الوحيدة العالقة في حياتها !
و هذا ليس عدلا ، من الطبيعي أن يحدث هذا لبعض الوقت ، لكن أن أحيا كأني في رمال متحركة تريدني أن أبقى حيث أنا أو تجذبني لأسفل و الكون كله من حولي في ركض محموم لا أعرف كيف ألحق به ، هذا ليس عدلا .
جدتي هذا مؤلم أيضا و وفاتك مؤلمة ، و بعدك مؤلمٌ أيضا ، و أنا وحدي .
ما يثير حنقي أني أشعر أني الوحيدة العالقة في حياتها !
و هذا ليس عدلا ، من الطبيعي أن يحدث هذا لبعض الوقت ، لكن أن أحيا كأني في رمال متحركة تريدني أن أبقى حيث أنا أو تجذبني لأسفل و الكون كله من حولي في ركض محموم لا أعرف كيف ألحق به ، هذا ليس عدلا .
جدتي هذا مؤلم أيضا و وفاتك مؤلمة ، و بعدك مؤلمٌ أيضا ، و أنا وحدي .
هلا زرتني مرة ؟
و لو مرة واحدة أثق بأنها ستعنى لي الكثير حتى لو لم تكلمينني .. فقط زيارة واحدة
أخرى ؟
لا أدرى إن كنتُ سأكتب لك بوفرة في الأيام القادمة أم لا ؟
لا أعرف إن كنت سأعودُ كما كنت قبل خمس عشرة سنة طليقة اللسان و القلب أملأ الشوارع حكيا و ثرثرة فارغة أم سأبقي مثقلة القلب و معقودة اللسان ؟
فقط زيارة واحدة ستعني لي الكثير ، ما كنت شحيحة قط يا جدتي و حاشاكِ أن تكوني يوما .
جدتي،
ليس لنا في الحنين يد ..لا أدرى إن كنتُ سأكتب لك بوفرة في الأيام القادمة أم لا ؟
لا أعرف إن كنت سأعودُ كما كنت قبل خمس عشرة سنة طليقة اللسان و القلب أملأ الشوارع حكيا و ثرثرة فارغة أم سأبقي مثقلة القلب و معقودة اللسان ؟
فقط زيارة واحدة ستعني لي الكثير ، ما كنت شحيحة قط يا جدتي و حاشاكِ أن تكوني يوما .
جدتي،
سلامٌ عليكِ ، أفتقدُكِ جدا ..
و عليَّ السلام فيما أفتقد (*)
ـــــــــــ
(*)
(*)
محمود درويش